
اليهودية وما بعد الحداثة: رؤية معرفية
Author(s) -
عبد الوهاب المسيري
Publication year - 1997
Publication title -
al-fikr al-islāmī al-muʿāṣir
Language(s) - Arabic
Resource type - Journals
eISSN - 2707-5168
pISSN - 2707-515X
DOI - 10.35632/citj.v3i10.1937
Subject(s) - psychology
لوحظ أن الكثيرين من دعاة ما بعد الحداثة إما يهود، أو من أصل يهودي (أمثال: جاك دريدا، وإدمون جابيس، وهارولد بلوم...). وقد أثرت أفكار ما بعد الحداثة في العقيدة اليهودية، وفي كثير من المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية، وسنتناول في هذه الدراسة جذور ما بعد الحداثة في العقيدة اليهودية وفكر بعض دعاة ما بعد الحداثة من اليهود.
ونحب في البداية أن نفرق بين ما نسميه "العلمانية الجزئية" و"العلمانية الشاملة"، فالعلمانية الجزئية هي فصل الدين (أي المؤسسات الدينية مثل الكنيسة ورجال الدين) عن مؤسسات الدولة المختلفة، أي أن هذه العلمانية تنصرف إلى بعض جوانب الحياة العامة في شكلها السياسي وربما الاقتصادي المباشر. وتلزم العلمانية الجزئية الصمت بخصوص المرجعية والقيم الدينية والأخلاقية وكثير من جوانب الحياة العامة وكل جوانب الحياة الخاصة. أما العلمانية الشاملة فهي لا تعني فصل الدين عن الدولة فحسب، وإنما فصل كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية عن كل جوانب الحياة العامة في بادئ الأمر، ثمَّ عن كل جوانب الحياة الخاصة في نهايته، إلى أن يتم نـزع القداسة تماماً عن العالم (الإنسان والطبيعة)، بحيث يصبح مادة استعمالية قابلة للتوظيف، وتصبح الطبيعة والمادة هي المرجعية الوحيدة لسلوك الإنسان ورؤيته في الكون.
ونحن نذهب إلى أن التحديث والحداثة وما بعد الحداثة هي مراحل ثلاث في متتالية العلمانية الشاملة. فالعلمانية الشاملة ليست جوهراً ثابتاً، ولا برنامجاً فكرياً محدداً يبتدئ كله في عالم التاريخ دفعة واحدة، وإنما هي متتالية تتحقق حلقاتها تدريجياً عبر الزمان، فمن عالم الاقتصاد إلى عالم السياسة إلى عالم الوجدان والأحلام، ثمَّ أخيراً عالم السلوك في الحياة العامة والخاصة. وحين تسري قوانين العلمانية الشاملة على مجال من مجالات النشاط الإنساني، فإن هذا المجال ينفصل عن المعيارية والغائية الدينية والأخلاقية والإنسانية ويصبح مرجعية ذاتِه ويستمد معياريته من ذاته، فتصبح المعايير في المجال الاقتصادي اقتصادية، وفي المجال السياسي سياسة، وفي المجال الجمالي جمالية، وهذا ما يسمى "التحييد" الذي يتصاعد إلى أن يصبح العالم بأسره مجالات محايدة لا يربطها رابط وتختفي أية معيارية إنسانية عامة، وتتآكل القيم والمفاهيم الكلية، وتسود النسبية التي تنكر على الإنسان المقدرة على تجاوز صيرورة عالم الطبيعة والمادة والحركة، فيسقط في قبضتها تماماً، وتسقط فكرة الحقيقة والحق والخير والجمال والكل، ثمَّ تسقط فكرة الطبيعة ذاتها (البشرية والمادية) في قبضة الصيرورة، أي تسقط كل المنظومات المعرفية والأخلاقية والجماعية، فالأمر هو عملية تفكيك كاملة ...
للحصول على كامل المقالة مجانا يرجى النّقر على ملف ال PDF في اعلى يمين الصفحة.